المرأة العربية بين أعراف مجتمعها وثوابت الإسلام
المرأة العربية بين أعراف مجتمعها وثوابت الإسلام
شاءت حكمة الله سبحانه أن يخلق الإنسان ابتلاءً واختباراً وتحقيقاً للاستخلاف في الأرض، وأن يحمّل مسؤولية ذلك الرجال والنساء على حدٍ سواء. قال تعالى? وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَة.? (البقرة:30) وقال تعالى: ?هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ...? (فاطر:39) وجاء أول تكليف إلهي موجه للرجل والمرأة على حد سواء، قال تعالى: ?وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ. ?(البقرة: 35) ومن رحمته بخلقه أنه لم يكلهم إلى أنفسهم وأهوائهم فشرع لهم من الأحكام ما تتحقق به سعادتهم في الدنيا والآخرة. فمن سار على هداه سعد وارتقى، ومن نكص على عقبيه مخالفاً هدي ربه- ضل وشقي. قال تعالى: ?فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ?(طه: 123). واليوم نرى الابتعاد عن منهج الله ? في التعامل مع كثير من القضايا، فوصل المسلمون إلى ما وصلوا إليه من الضعف والتخلف والتبعية. ومن ذلك قضايا المرأة والواقعة تحت تأثير نقيضين إما موروث مبتدع أو وافد فاسد، فصارت أعرافاً أخذت تتحكم في تصورات الناس للمرأة وتعاملهم مع قضاياها بما يتعارض مع ثوابت الشريعة وأحكامها.
وقد جاءت هذه الدراسة التأصيلية بهدف بيان العلاقة بين العرف والشرع، وكيفية تعامل الشريعة مع الأعراف السائدة في عصر التنـزيل لنجعل من ذلك منهجاً لنا في التعامل مع الأعراف المختلفة السائدة في أي مجتمع اليوم سواء أكانت أعرافاً موروثة أم أعرافاً وافدة. كما تهدف إلى ذكر نماذج من الأعراف السائدة في المجتمعات العربية قديماً وحديثاً وبيان مخالفتها لثوابت الشريعة لتقلع عنها المجتمعات وتعود إلى منهج ربها.
وقد تتبعت الجانب النظري من هذا البحث في أمهات كتب أصول الفقه وكذا مراجعه الحديثة، وأضفت إليه ما أرشدني إليه اجتهادي. كما تتبعت نماذج من الأعراف المتعلقة بالمرأة في المجتمعات العربية واقتصرت على بعض منها ووزْنه بميزان ثوابت الشريعة مبينة تعارضها معها.
وقد تناولت موضوعي هذا من خلال ثلاثة مباحث: جعلت الأول منها مبحثاً تمهيدياً تناولت فيه تعريف المصطلحات، وأقسام العرف. وخصصت الثاني لبيان العلاقة بين العرف والشرع. وتناولت في الثالث نماذج من الأعراف السائدة قديماً وحديثاً في المجتمعات العربية وبيان مخالفتها لثوابت الشريعة.
أولاً: تعريف المصطلحات
الثوابت، لغة: جمع ثابت وهو بمعنى الشيء الساكن الذي لا يبرح مكانه فهو ثابت مستقر غير قابل للتغيير. وثوابت الإسلام اصطلاحاً: هي القطعيات، أي ما ثبت بنصوص قطعية الثبوت والدلالة من الكتاب والسنة أو الإجماع الصريح الذي له صفة التأبيد ، فلا مجال للتطوير أو الاجتهاد فيها، كما يحرم الاختلاف فيها أو مخالفتها. وإن كان لفظ الثوابت من المصطلحات الحديثة إلا أن مدلوله قديم؛ فقد قال الإمام الشافعي: "كل ما أقام به الله الحجة في كتابه أو على لسان نبيه منصوصاً بيِّناً لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه." وأورده شيخ الإسلام ابن تيمية بمسمى الشرع المنـزل -في مقابل الشرع المؤوّل- حيث قال رحمه الله: "لفظ الشرع في هذه الأزمنة ثلاثة أقسام: أحدهما الشرع المنـزل، وهو الكتاب والسنة واتباعه واجب، ومن خرج عنه وجب قتله، ويدخل فيه أصول الدين وفروعه، وسياسة الأمراء... وغير ذلك، فليس لأحد من الأولين والآخرين خروج عن طاعة الله ورسوله.
والثاني الشرع المؤوّل وهو موارد النـزاع والاجتهاد بين الأمة، فمن أخذ فيما يسوغ فيه الاجتهاد أقرّ عليه ولم تجب على جميع الخلق موافقته إلا بحجة لا مرد لها من الكتاب والسنة."
ونخلص مما سبق أن ثوابت الإسلام هي ما جاءت به النصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة، أو الإجماع الصريح، والتي لا مجال للاجتهاد فيها، ولا تختلف فيها الأفهام، ولا تتغير بتغير الزمان والمكان والحال. فالأحكام المبنية عليها تتصف بالدوام والاستقرار، وأضيف إلى ذلك في هذا الموضوع بعض ما ثبت بدليل ظنّي راجح بحيث تكون مخالفته نوع من الشذوذ أو الزلل.
ولا يخفى أن في شريعتنا الإسلامية ثوابت وقيماً حاكمة لا ينبغي تخطيها عند التعامل مع المرأة مثل الحرية والمساواة والعدالة، وغيرها؛ حيث نجد أن الشريعة تقرر حرية الإنسان (ذكراً وأنثى) في اعتقاد ما يختاره بعد أن بيّن لهم الخير والشر والحق والضلال. قال تعالى: ?لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ...? (البقرة: 256). وأثبتت الشريعة استقلالية شخصية المرأة في اختيارها بين الإيمان والكفر. قال تعالى: ?ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ. وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.? (التحريم: 10-11)
ومن العدالة أن الأصل في تقرير وضع المرأة مقارناً بوضع الرجل هو التسوية بينها، إلا ما دلت النصوص على الاختلاف فيه ومن صور العدالة والمساواة بينهما: المساواة في أصل الخِلقة والنشأة، والمساواة في التكريم، والمساواة في حق الحياة، والمساواة في التكليف الشرعي والجزاء الأخروي دونما فارق بينهما، والتساوي في الحدود والعقوبات الشرعية، والمساواة في أهلية التصرفات والتعاقدات المالية.
وما هذا إلا إشارة إلى أهم الثوابت في التعامل مع المرأة، لأن هذا البحث لم يخصص لحصر الثوابت المتعلقة بالمرأة بقدر ما اهتم بذكر نماذج من الأعراف السائدة في المجتمعات العربية، والتي تحكم وتؤثر في التعامل مع المرأة ووزنها بميزان ثوابت الشريعة.
والعرف في أصل اللغة بمعنى المعرفة، واستعمل بمعنى الشيء المألوف المستحسن والذي تتلقاه العقول السليمة بالقبول. والعرف ضد النُّكر، والمعروف ضد المنكر. وقال ابن فارس: "العين والراء والفاء أصلان صحيحان، يدل أحدهما على تتابع الشيء متصلاً بعضه ببعض، والآخر على السكون والطمأنينة."
والعرف في الاصطلاح هو ما اعتاده الناس وألفوه من قول أو فعل أو ترك و تكرر مرة بعد أخرى حتى سارت عليه أمورهم وتلقته عقولهم بالقبول. وقيل في تعريفه: ما استقرت عليه نفوس الناس وتلقته طباعهم السليمة بالقبول وصار عندهم شائعاً في جميع البلاد أو بعضها قولاً كان أو فعلاً.
أما العادة فهي ما اعتاده الفرد والجماعة وتكرر مرة بعد أخرى من قول أو فعل، وكثير من الأصوليين لم يفرقوا بين العرف والعادة واعتبروهما مترادفين، وكثير منهم حين يذكر العرف يقرنه بالعادة. وقد جاء في مصادر التشريع: "العرف والعادة في لسان الشرعيين لفظان مترادفان معناهما واحد. .
" ومن العلماء من فرَّق بينهما فخصَّ العرف بالقول والعادة بالعرف العملي، وفيهم من فرّق بأن العادة أعم من العرف لأن العادة تطلق على العادة الجماعية كما تطلق على العادة الفردية، فيكون كل عرف عادة وليس كل عادة عرفاً.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن العرف ينقسم إلى أقسام عدة باعتبارات مختلفة، إذ ينقسم باعتبار موافقته لأحكام الشريعة ومقاصدها أو مخالفته إلى قسمين، فالموافق عرف صحيح، والمخالف عرف فاسد. وينقسم باعتبار موضوعه ومتعلقه إلى عرف لفظي (قولي) وهو ما تعارف عليه الناس في أقوالهم دون أفعالهم وعرف عملي (فعلي) وهو عكس سابقه.
وينقسم باعتبار كونه عامّاً أو خاصاً إلى عرف عام منتشر في جميع البلاد وبين جميع الناس في أمر من الأمور، وعرف خاص بأهل بلد دون آخر أو منطقة دون أخرى أو بين فئة من الناس دون أخرى. وأضيف إلى هذا التقسيم العرف اللفظي الشرعي، وهو خاص بالألفاظ التي استعملها الشرع مريداً منها معنى خاص غير الذي وضعت له في اللغة.
ثانياً: العلاقة بين العرف والشرع
لا خلاف بين العلماء في أن العرف الصحيح مصدر من مصادر التشريع التي يستند إليها في استنباط الأحكام إذا لم يخالف ثوابت الشريعة ومقاصدها. وقد أشار القرافي إلى هذا المعني بقولـه: "أما العرف فمشترك بين المذاهب ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها."
ومن العبارات المشتهرة عندهم: "الثابت بالعرف كالثابت بالنص"، كما يقولون: "العادة شريعة محكّمة" أي معمول بها شرعاً؛ و"المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً." ولما للعرف من أهمية نجد أن الشريعة الإسلامية- وهي دين الفطرة- قد راعته في كثير من الأحكام، فجعلت الدية على العاقلة، وبنت الولاية في الزواج والإرث على العصبة، واشترطت الكفاءة في الزواج، وقد ألف العلامة المرحوم ابن عابدين رسالة سماها: "نشر العَرف فيما بني من الأحكام على العُرف."
ومن أدلتهم على ذلك قول الله ?: ?خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين? (الأعراف: 199). ووجه الاستدلال أن الله ? أمر نبيه ? بالعرف وهو ما تعارفه الناس واستطابته نفوسهم فالعمل به مقتضى الأمر. وقوله ? لهند زوج أبي سفيان حين شكت إليه تقتير زوجها عليها وعدم إعطائها ما يجب عليه من النفقة: "خذي أنت وبنوك ما يكفيك بالمعروف"؛ فقد جعل ? العرف محدداً وضابطاً للواجب الذي يحدد بنص الشرع أو بقضاء القاضي. وعن ابن مسعود قوله: (ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن). والبعض يعتبر العرف مصدراً مستقلاً من مصادر التشريع، وبعضهم يعده من قبيل مراعاة المصلحة المرسلة، والتي تعد من مصادر التشريع. وهكذا نجد أن الجميع اعتبر العرف الصحيح حجة شرعية ومصدراً من مصادر التشريع، سواء أكان مصدراً مستقلاً أم غير مستقل. ولا خلاف أيضاً في أن العرف الفاسد لا يراعي في التشريع ولا يجوز العمل به -بل يجب رفضه ومقاومته وإعلان الحرب عليه.
وكما يراعى العرف الصحيح في تشريع الأحكام يراعى في تفسير النصوص، فيخصص به العام ويقيد به المطلق، كتحديد أقل مدة للحيض وأكثرها، وأقل البلوغ بناء على ما تعارف عليه الناس. ولما كانت الأعراف متغيرة بتغير البيئات والأزمان، فالأحكام المبنية على العرف أيضاً تكون متغيرة بتغير الزمان والمكان؛ فأعراف اليمن قد تختلف عن أعراف الشام وهكذا؛ وأعراف الماضي تختلف عن أعراف اليوم. وبناءً على ذلك نجد أن الإمام الشافعي كان له مذهبان قديم بالعراق ومذهب جديد بمصر. .
وتجدر الإشارة هنا إلى أن كلمة فقهاء المذاهب قد اتفقت على أن الأعراف التي تتغيّر بتغيّر البيئات ولأزمنة هي الأعراف التي لا يوجد في إثباتها أو نفيها دليل شرعي قاطع، أما الأعراف التي أقرتها الشريعة أو أبطلتها بنصوص قطعية فهي أحكام شرعية ثابتة مستمرة لا تتغير ولا تتبدل ولا يجوز فيها الاجتهاد.
وقد تعاملت الشريعة الإسلامية -في عصر التنـزيل- مع الأعراف المختلفة؛ فقد جاءت الشريعة وهناك أعراف اجتماعية مختلفة سار الناس عليها وألفوها وأصبحت جزءاً من حياتهم وسمة من سماتهم، فما وافق الشريعة ومقاصدها أيدته الشريعة بالقبول وأقرته وأصبح أحكاماً شرعية، كفرض الدية على العاقلة، واعتبار العصبة في الإرث، والكفاءة في الزواج وبعض المعاملات كالمضاربة والعرايا -وهو بيع الرطب على رؤوس النخل بمثله من التمر- وذلك مستثنى من نهيه ? عن بيع التمر بالتمر. وما وافق الشريعة من أوجه وخالفها من أوجه أخرى، كتعدد الزوجات إلى غير حد، هذبته الشريعة وقصرته على أربع. وما عارض الشريعة من تلك الأعراف فتصادم مع أحكام الشريعة ومقاصدها ضرب بها الشرع عرض الحائط ونسفها نسفاً سواء أكانت في العقائد والعبادات، كعبادة الأصنام، أم في العلاقات الاجتماعية والجانب الأخلاقي كنكاح زوجة الأب، ووراثة النساء كرهاً إذا مات الزوج، وإكراه الفتيات على البغاء؛ أم في الجنايات كوأد البنات؛ أم في المطعومات والمشروبات كتعارف الناس على شرب الخمور وصناعتها في البيوت -فحرم ذلك كله- أم في المعاملات كالربا، الذي أعلن عليه الشرع الحرب. ولا خلاف بين الفقهاء في وجوب الأخذ بالأعراف التي أقرتها الشريعة أو أبطلتها بنصوص قطعية، عملاً بالواجب وتركاً للمحرم، وأنها أحكام شرعية ثابتة لا تتغير ولا تتبدل.
ثالثاً: نماذج من الأعراف السائدة قديماً وحديثاً في المجتمعات العربية وبيان مخالفتها لثوابت
الشريعة
قبل البدء بسرد هذه النماذج من الأعراف، تجدر الإشارة إلى أن بعض هذه الأعراف عامّ في جميع البلاد العربية، والبعض الآخر خاص ببلد دون بلد ومنطقة دون أخرى في البلد الواحد، كما أن التمسك بها يتفاوت بين الناس بحسب ثقافتهم ومدى التزامهم بشرع الله عز وجل، فنجدها أقوى سلطة وأكثر انتشاراً بين العوام وغير المثقفين، بينما نجد أ نّها أخذت في الانحسار والتلاشي بين المثقفين الملتزمين بشرع الله عز وجل بفعل الصحوة الإسلامية الراشدة وما تقوم به من إعادة صياغة العقول والأفراد وفقاً لمنهج الشريعة الإسلامية.
1
العرف السائد قديماً وحديثاً في التمييز بين الذكر والأنثى منذ الولادة وما يتبع ذلك من أمور لا تمت إلى الإسلام بصلة -بل تتعارض مع ثوابت الشريعة التي ساوت بين الذكر والأنثى في أصل الخلقة والنشأة- ?فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ? (آل عمران: 195)، وفي القيمة والكرامة الإنسانية وفي المكانة والمنـزلة الاجتماعية، وما أودع في كل منهما من فروقات عضوية ونفسية -إنما هي خصائص تتحدد بموجبها أولويات وظائف وأدوار كل منهما في الأسرة والمجتمع بتكامل وتكافل، قال تعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً? (النساء:1) وقال تعالى: ?إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ …وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً? (الأحزاب: 35). وقال تعالى: ?وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ? (غافر: 40).
ومن أمثلة ذلك ظهور الحزن وغياب السرور عند ولادة الأنثى وما يتبعه من تصرفات، فمما تعارفت عليه النساء في اليمن عندما تضع المرأة حملها، فإن كان ذكراً زغردت القابلة ثلاث زغاريد، وإن كانت أنثى اكتفت بواحدة وما يدل عليه من استثقال الوالدين لمكانتها وسخطهم لمجيئها، وكفى العبد إثما أن يسخط ما وهبه الله تعالى.
وفي سوريا إن كان المولود ولداً بشرت القابلة ومن معها من النساء بالمولود، وهنئوا أهل المولود وإن كانت أنثى ساد الصمت والسكوت، ومنه يعرف أن المولود أنثى، ومن عباراتهم إذا حصل سكوت في مجالس النساء قلن بلهجتهن: (ليش-أي لماذا- صارت سكته؟ جاءت بنت!)، كما يقوم عندهم الأب أو الجد بتوزيع الحلوى على الجيران إذا كان المولود ذكراً ولا يوزع إن كانت أنثى. بل قد يمتد الأمر إلى هجر الزوج لزوجته بسبب وضعها للأنثى، وهو أمر لا يملكه هو ولا زوجته. وما هذا العرف إلا بقية من بقايا الجاهلية التي ذمهم الله تعالى لأجلها في قوله: ?وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ. يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ? (النحل: 58، 59) وقال تعالى: ?لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ. أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ? (الشورى: 49،50) ويلحظ في الآية تقديم الإناث على الذكور جبراً لأجل استثقال الوالدين لمكانتها، وقيل إنما قدمهم لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاء لا ما يشاء الأبوان. ووجه آخر: "وهو أن الله سبحانه وتعالى قدم ما كانت تؤخره الجاهلية من أمر البنات حتى كانوا يئدوهن، أي: هذا النوع المؤخر عندكم مقدم عندي في الذكر."
ومن الأمثلة كذلك ما تعارف عليه البعض من عدم العدل في العطية بين البنات والبنيين وتقديم الذكر على الأنثى في العطية، مرددين عبارات تدل على تعمّد ذلك مثل: "ما أنت إلا بنت"، "هو رجل"، وذلك إذا بدر منها ما يدل على رفض الظلم أو الاعتراض على التمييز الظالم بينهما.
وهذا العرف يتعارض تماماً مع مبادئ الإسلام التي تدعو إلى المساواة المطلقة والعدل الشامل، ولم تفرق في المعاملة الرحيمة والعطف الأبوي بين رجل وامرأة وذكر وأنثى تحقيقاً لقوله تبارك وتعالى:? اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ? (المائدة:
وتنفيذاً لأمر الرسول ? القائل: "اعدلوا بين أبناءكم اعدلوا بين أبنائكم اعدلوا بين أبنائكم." وهذا العرف كسابقه من بقايا أعراف الجاهلية البغيضة والتي لا مكان لها في شرع الله.
وفي سبيل اقتلاع جذور الجاهلية من النفوس الضعيفة نجد رسولنا ? يخص البنات بالذكر ويحث الآباء والمربين على حسن صحبتهن والعناية بهن ابتغاءً لمرضات الله عز وجل، والنجاة من النار والفوز بجنّة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين. ومن هذه التوجيهات النبوية قوله ?: "من ابتلي من هذه البنات بشيء كن له ستراً من النار.
" وفي رواية لمسلم: "من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو وضم أصابعه." وقال ?: "من كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو ابنتان أو أختان فأحسن صحبتهن واتقى الله فيهن فله الجنة." وإنما قال ? في بعض رواياته: "من ابتلي"؛ لأنه حدّث قوماً كانوا حديثي عهدٍ بجاهلية يرون في ولادة البنات أعظم بلوى فخاطب رسول الله ? هذا الشعور المستكن في الأعماق على معنى: على فرض أن ولادة البنات ابتلاء من الله تعالى لكم فقد عوضكم عن هذا الابتلاء بالجنة لمن راعى الله فيهن وأحسن إليهن فهذا وجه، والآخر فمن المفاهيم الإسلامية المقررة أن الابتلاء يكون بالخير كما يكون بالشر، قال تعالى:? وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ? (الأنبياء: 35)
2. ومن بقايا الأعراف التي لا زالت سائدة في كثير من البلاد العربية، وخاصة في القرى أو لدى غير المثقفين منهم، النظرة الدونية للمرأة، ويظهر ذلك من خلال بعض الممارسات والألفاظ الشائعة. ففي الممارسات نجد أن النساء في بعض المناطق لا يأكلن إلا بعد الرجال، بل قد يأكلن من فضول الطعام حتى وإن كان الطعام كثيراً! كما نجد البعض لا يسمح لها بالركوب في مقدمة السيارة، بل تركب في قفص السيارة، ومنه النظرة المحتقرة للمرأة المطلقة وكأنها ارتكبت جرماً، وبالرغم من أن الطلاق أبغض الحلال إلى الله فهو حل رباني منطقي لكثير من المشاكل الأسرية المستعصية بعد فشل الحلول الأخرى، ومسئوليته لا تتحملها المرأة وحدها.
وأما في الألفاظ فمن ذلك الكثير كقولهم: "حريم أعزك الله"، "وحرمة بنصف عقل"، وإن وجد كلام غير واقعي نسب إلى ما يسمى "كتاب اللباد تبع النسوان"، وعبارة: "صدق، لك مرة"، وعبارة: "من يسمع كلام المرة هو مرة المرة"، ومن تلك الأعراف عدم ذكر اسم المرأة واعتبار ذلك من العار أو العيب وإنما يقال عائلة فلان. وإذا عدنا إلى أصل هذه النظرة الدونية وما ترتب عليها من أقوال وممارسات تنتقص من المرأة وتمتهنها، وجدناها بقية من بقايا معتقدات اليهود والنصارى المذكورة في كتبهم المحرّفة -والتي تحمّل المرأة وزر الخطيئة الأصلية وتعتبرها المسؤولة عن عصيان آدم لأمر الله تعالى حينما أكل من الشجرة، التي نهاه الله تعالى عن الأكل منها- على إثر أكل زوجته منها؛ وعليه فقد عاقبها الله تعالى بتكثير أتعاب الحبل والوجع وعاقب بناتها بعد ذلك.
وقد فنّد القرآن الكريم هذه الأباطيل، ورفع هذا الإصر عن (المرأة) حينما صرحت آياته بأن الشيطان هو الذي زيّن لهما العصيان فأكلا منها معاً، كما قال تعالى: ?فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى. إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى. وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى. فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى.? (طه: 116- 122) وكذا صرح القرآن الكريم برفع إصر المعصية عن الجنس البشري كله -خلافاً لما يعتقده اليهود والنصارى؛ فعقِب عصيان آدم تاب الله عليه واجتباه، قال تعالى:?ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى? (طه:123).
كما أن ما يعتبره الكتاب المقدس عند اليهود والنصارى عقاباً للمرأة ولبنات جنسها -باعتبارها المسئولة الأولى عن المعصية- عده القرآن الكريم مزية خاصة بالمرأة ومكرمة لها حين تكون أماً فخصها بمزيد من التكريم عند ولدها على ما للأب من حق عليه.
حيث قال تعالى: ?وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِير. ?(لقمان: 14) وقال تعالى: ?وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ.? (الأحقاف: 15)
ولهذا نجد النبي ? أوصى بالأم ثلاث مرات قبل أن يوصي بالأب، حيث جاء رجل إلى النبي ? فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: "أمك"، قال: ثم من: قال: "أمك"، قال: ثم من: قال: "أمك"، قال: ثم من: قال: "أبوك". وقال ? موصياً بالأم: "الزم رجلها فثم الجنة".
وبالرغم من هذه النصوص الواضحة والتي تدحض معتقدات اليهود والنصارى الباطلة عن المرأة، إلا أننا نجد بعضها قد تسربت إلى العرب من قبل الإسلام ومن بعده، فنجد في الشعور واللاشعور الجمعي العربي والإسلامي والشرقي عامة انعكاسات واضحة لهذه المعتقدات في الأفعال والأقوال مناقضة لنصوص الإسلام الصحيحة ومن الأقوال ما اشتهر بين الناس كأحاديث نبوية حمِّلت المرأة وحُمِّل الإسلام بسببها ظلماً كبيراً وجهالة وحرباً شديدين.
ومن هذه الأحاديث المشتهرة على الألسنة: "شاوروهن وخالفوهن" ، وقد أورده بلتاجي في كتابه تكريم المرأة، وأورد طرقه بعبارات مختلفة، وكلها ضعيفة. وقد أصبحت هذه العبارة (شاوروهن وخالفوهن) عرفاً قولياً وعملياً في كثير من البلاد.
ويكفي في الرد على ذلك أن الله عز وجل قد أمر نبيه ? أن يشاور أمته -ولم يفرق في ذلك بين ذكر وأنثى- في قوله تعالى: ?وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ? (آل عمران: 159). كما امتدح أمة الإسلام على نهجها سبيل التشاور دون تفريق بين ذكر وأنثى بقوله تعالى: ?وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ? (الشورى: 38)، إذ الألفاظ في الآيتين تدل على العموم. كما أن فعله ? وأخذه بمشورة أم سلمة في صلح الحديبية "صار دليلاً لاستشارة المرأة الفاضلة." ويكفينا هذا من الأقوال المشتهرة وما سبق من الرد عليه.
وأقول إن النظرة الدونية للمرأة وما يتبعها من أعراف لا أصل له، ومتعارض مع النصوص القطعية والتي تبيّن خلقه سبحانه وتعالى للذكر والأنثى، وتكريمه لهما على حد سواء، فهو رب الجميع خلَقهما وسوّاهما وعدلهما، وفضّلهما على كثير من خلقه تفضيلا. قال تعالى: ?وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى.? (النجم: 45) وقال تعالى: ?وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً.? (الإسراء: 70) فقد قررت هذه الآية تقريراً قاطعاً بأن الله تعالى كرّم الجنس البشري كله رجالهم ونساءهم ولم يستثن من هذا التكريم نوعاً منهم، فهم سواء في التكريم الإلهي، بل إن المرأة الأم والمرأة الحاضنة سابقة عليه في التكريم.
3. .
ومن ذلك قضية الإرث وحرمان النساء منه في بعض البلدان، ووجوده في القرى أكثر من وجوده في المدن باعتبار أن الذي يستحق الإرث هو الرجل الذي يحمل اسم أبيه ويحمي أسرته ويمنعها، كما أن في توريث النساء إخراج لأموال الأسرة إلى الغرباء (الأزواج). ولا يخفى ما في ذلك من تصادم واضح مع ثوابت الشريعة ومقاصدها العادلة والتي تقضي بأن: ?لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً? (النساء: 7)
وما هذا العرف الجائر إلا بقية من بقايا أعراف الجاهلية والتي تقضي بعدم توريث النساء، بل تعدى الأمر ذلك إلى وراثة النساء كرهاً ضمن متاع البيت. فألغت الشريعة ذلك وأبطلته ومنعت وراثة النساء كرهاً، وجعلت لهن نصيبا مفروضاً حددته الشريعة، وهو من الأمور القطعية التي لا يجوز التدخل فيها بزيادة أو نقصان فضلاً عن الإلغاء، وإنما قلت عدم التدخل فيه بزيادة أو نقصان لأنه يوجد من أقارب المرأة من الرجال من لا تطيب نفسه بإعطاء نصيب المرأة كاملاً -إن كان ممن يؤمن بأن لها نصيباً في الإرث- فيعطيها من المنقولات ما ترضى نفسه أن تعطيه، وأما العقارات من أراضي وبيوت فيلتفّ عليها بأي طريقة لتبقى في ملكه، بل ربما حُبست المرأة عن الزواج من غير الأهل كي لا تخرج أموال الأسرة إلى الأباعد -كما يقولون- وإن أدى إلى بقائها من غير زواج إلى أن تموت.
وأما الزيادة فإننا نسمع أصواتاً ترتفع عبر منظمات نسائية ومؤسسات رسمية تطالب بمساواة المرأة بالرجل في الإرث متأثرة بالثقافة الغربية، والتي تدعوا إلى التماثل المطلق بين الذكر والأنثى بحق أو بغير حق، وإن خالف ثوابت الشريعة التي لا مجال للاجتهاد فيها.
ولا يخفى أن التفاوت بين الذكر والأنثى في الميراث ليس فيه انتقاص لمكانة المرأة وكرامتها أو نفي للمساواة بين الرجل والمرأة، إذ التمايز في الميراث لا تحكمه الذكورة والأنوثة وإنما هو محكوم بمعايير ثلاثة أولها، درجة القرابة بين الوارث -ذكراً أو أنثى- وبين المورِّث، فكلما اقتربت الصلة زاد النصيب في الميراث. وثاني هذه المعايير موقع الجيل الوارث من التتابع الزمني للأجيال، فالأجيال التي تستقبل الحياة عادة يكون نصيبها في الميراث أكبر من نصيب الأجيال التي تستدبر الحياة، بصرف النظر عن الذكورة والأنوثة للوارثين. فالبنت ترث أكثر من الأم -وكلتاهما أنثى- بل ترث أكثر من الأب! والابن يرث أكثر من الأب وكلاهما من الذكور! أما المعيار الثالث فهو العبء المالي الذي يوجب الشرع على الوارث القيام به حيال الآخرين. وهذا المعيار الذي يثمر تفاوتاً بين الذكر والأنثى. قال تعالى: ?يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ... فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً? (النساء: 11)، لأن الذكر الوارث هنا في حالة تساوي درجة القرابة والجيل مكلف بإعالة زوجة أنثى بينما الأنثى –الوارثة- إعالتها فريضة على الذكر المقترن بها. فهنالك توازن دقيق بين حقي المرأة في الميراث والنفقة، إذ الميراث والنفقات بابان يكمل كل منهما الآخر.
وبالاستقراء وُجد أن الحالات التي ترث فيها المرأة نصف الرجل هي حالات أربع فقط -وتكون نفقة المرأة فيها على الرجل المساوي لها في درجة القرابة- بينما الحالات التي تساوي فيها المرأة الرجل تماماً في الإرث فهي أضعاف ذلك، وهناك حالات عشر أو تزيد ترث فيها المرأة أكثر من الرجل، وهناك حالات ترث فيها المرأة ولا يرث فيها الرجل.
ونجد من يدعو إلى المساواة بين الذكر والأنثى في الإرث مبرراً ذلك بأن المرأة أصبحت تنفق مثل الرجل. وبداية أقول إن مثل هذه الدعوى تلبي رغبات أعداء الأمة في هدم نظام القوامة في الأسرة بما يزعزع استقرارها. ثم أَُذكِّر من تنفعه الذكرى فأقول لا مجال للخوض أو مناقشة إمكانية مساواة المرأة بالرجل في الميراث -في المواضع التي اختلفت عنه- لأنها من المسائل القطعية التي لا مجال للاجتهاد فيها، وهي تمثل حدوداً لله لا يجوز تخطيها لأن الله عز وجل بعد أن ورَّث الذكر والأنثى ما قضى به قال تعالى: ?تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ? (النساء: 13، 14) ثم إن الشرع لم يلزم المرأة بالإنفاق، فإن كانت قد ألزمت نفسها أو ألزمها من حولها أو دعتها الضرورة لذلك، فهذا لا يعد مبرراً لتجاوز حدود الله الذي يعلم ما ينفع ويصلح حال عباده في كل زمان ومكان، قال تعالى: ?أَلَا يَعْلَم ُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ? (تبارك: 14)
وأما مسألة إخراج أموال الأسرة إلى الغرباء، فلا تقف أمام عدل الله وعلمه وحكمته، وليس أمام المسلم الحق إلا التسليم برضىً كامل لأمر الله، قال تعالى: ?وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً.? (الأحزاب: 36)
4. خروج المطلقة طلاقاً رجعياً من بيت الزوج بمجرد وقوع الطلاق من الأعراف السائدة بين النساء في اليمن وفي كثير من البلاد "فلا نرى مطلقة تبقى في بيت الفراق." وفي ذلك مخالفة واضحة لنص القرآن الكريم، قال الله عز وجل: ? يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً? (الطلاق: 1) وعليه يحرم خروج المطلقة من البيت الذي كانت تسكن فيه مع زوجها قبل وقوع الطلاق. فلا يجوز للزوج إخراجها أو الإذن لها بالخروج وهذا مستفاد من قوله تعالى: ?لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ.?
وقد ذكر ابن العربي أن هذا في المطلقة الرجعية، وأنه نص، وقال: "جعل الله للمطلقة الرجعية السكنى فرضاً واجباً وحقاً لازماً هو لله سبحانه وتعالى، لا يجوز للزوج أن يمسكه عنها ولا يجوز لها أن تسقطه عن الزوج." وجاء في تفسير الرازي بصدد هذه الآية: "لا تخرجوا المعتدات من المساكن التي كنتم تساكنوهن فيها قبل الطلاق... وعلى الزوجات أيضاً أن لا يخرجن حقاً لله تعالى إلا لضرورة ظاهرة، فإن خرجن -بدون ضرورة- ليلاً أو نهاراً كان هذا الخروج حراماً…" وفي أقوال المفسرين دليل على وجوب ملازمة المعتدة بيت العدة وعدم خروجها منه حتى تنقضي العدة. وقد اتفق الفقهاء مع المفسرين في ذلك. وما على المسلمين رجالاً ونساء إلا التسليم لأمر الله عز وجل خاضعين لأمر الله راضين به.
جريمة الشرف: وهي من الأعراف السائدة في كثير من البلاد العربية، إذ يقوم أحد أقارب المرأة (أب - ابن - أخ - زوج - ابن عم...) بقتل قريبته التي يشك في ارتكابها لجريمة الزنا، ولا يُراعى في ذلك كونها محصنة أو غير محصنة، ولا يُنظر إلى إثبات الجريمة بالطرق الشرعية، بل في كثير من الأوقات بعد قتل الفتاة وعند إجراء الفحص الطبي يجدونها بكراً، وعليه يكون فعلهم هذا جريمة قتل، وكذلك في حالة ثبوت جريمة زنا غير المحصنة أي البكر، وأما في حالة ثبوت جريمة الزنا من المحصنة، فيكون قتل القريب لقريبته افتئات على حق الدولة في تطبيق الحدود.
وخلاصة القول في هذا العرف أنه يتعارض مع ثوابت الشريعة وأدلتها القطعية والتي جعلت حفظ العرض كلية من كليات الإسلام الخمس فحرّمت القذف وحرّمت الزنا وكل ما يدعو إليه من خلوة ونظرة... الخ، وجعلت هنالك حدوداً للقاذف، والزانية والزاني المحصن وغير المحصن ووضعت لذلك شروطاً، وجعلت الملاعنة بين الزوجين، وكل ذلك أدلته قطعية، وفوق ذلك كله حصرت تنفيذ الحدود بالحاكم ولم تتركه للأفراد سواءً أكانوا آباءً أم أزواجاً أم أقارباً.
وأقول لأولياء الأمور إن الأولى بكم أن تتحملوا مسؤوليتكم كاملة تجاه أبنائكم ذكوراً وإناثاً، فتعملوا على غرس وتعميق معاني الإيمان من محبة لله ورسوله، وخشية ومراقبة لله تعالى في نفوس أبنائكم، وتحسِّنوا تربيتهم على الآداب والأخلاق الإسلامية، وتحصِّنوهم ضد وسائل الهدم والإفساد المستشرية في المجتمع والعالم أجمع، قال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ? (التحريم: 9).
6. العرف الذي يقضي بأن صوت المرأة عورة -ليس له أصل شرعي، بل يتعارض مع ثوابت الشرع ومقاصده وعدله، فمن حقها أن تتكلم بل يجب عليها أن تتكلم في مواضع وإن سمعها غير المحارم- آمرة بالمعروف ناهية عن النكر، وقد كان هذا هو حال المؤمنين رجالهم ونساؤهم كما وصفه القرآن الكريم؛ قال تعالى: ?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.? (التوبة: 71)
والمطلوب شرعاً القول المعروف وعدم الخضوع بالقول، قال تعالى: ?يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَد مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ?(الأحزاب: 32)
قال الزجاج في قوله تعالى: ?فلا تخضعن بالقول? "أي لا تقلن قولاً يجد به منافق سبيلاً إلى أن يطمع في موافقتكن له." وفي قوله تعالى: ?وقلن قولاً معروفاً? "أي: قلن ما يوجبه الدين والإسلام بغير خضوع فيه، بل بتصريح وبيان." وقال ابن العربي في تفسير هذه الآية "أمرهن الله أن يكون قولهن جزلاً، وكلامهن فصلاً ولا يكون على وجه يحدث في القلب علاقة بما يظهر عليه من اللين المطمع للسامع وأخذ عليهن أن يكون قولهن معروفاً." وقال الجصّاص بصدد هذه الآية: "قيل فيه ألاّ تلين القول للرجال على وجه يوجب الطمع فيهن من أهل الريبة، وفيه دلالة أن ذلك حكم سائر النساء في نهيهن عن إلانة القول للرجال على وجه يوجب الطمع فيهن.
" وقال الزمخشري في هذه الآية "(إن اتقيتن) إن أردتن التقوى وإن كنتن متقيات، (فلا تخضعن بالقول) فلا تجبن بقولكن خاضعاً أي ليّناً خنثاً مثل كلام المريبات والمومسات (فيطمع الذي في قلبه مرض) أي ريبة وفجور، (وقلن قولاً معروفاً) أي بعيداً عن الطمع المريب، بجد وبخشونة من غير تخنيث أو قولاً حسناً مع كونه خشناً."
بعد هذا الطواف مع أقوال المفسرين نجد أن كلمتهم قد اتفقت على أن صوت المرأة المنهي عنه هو القول الليّن الذي يستميل قلوب الرجال المريضة، فيحرك الغريزة فيهم ويوجد الطمع فيهن، وأما القول المعروف الجزل الفصل الخشن -أي البعيد عن اللين والرقة- فلا حرج فيه.
ومن الأحاديث الدالة على أن كلام المرأة الأجنبية وسماعه مباح ما روته أم عطية قائلة: "بايعنا النبي ? فقرأ علينا: "ألا نشرك بالله شيئاً… الخ". ونهانا عن النياحة فقبضت امرأة منا يدها وقالت: فلانة أسعدتني وأنا أريد أن أجزيها فلم يقل شيئاً، فذهبت ثم رجعت…الخ." قال ابن حجر -في شرحه لهذا الحديث-: "وفي هذا الحديث أن كلام الأجنبية مباح سماعه وأن صوتها ليس بعورة… وقال الإمام الغزالي رحمه الله: "وصوت المرأة من غير غناء ليس بعورة، فلم تزل النساء في زمن الصحابة رضي الله عنهم يكلمن الرجال في السلام والاستفتاء والسؤال والمشاورة وغير ذلك." وقد نقل الدكتور عبد الكريم زيدان تصريحات فقهاء الشافعية والمالكية والحنابلة والحنفية، بأن "صوت المرأة ليس بعورة" وأن الممنوع عليها رفع الصوت وتمطيطه، وتليينه وتقطيعه، وقد عبر عنه بعضهم بالنغمة لما في ذلك من استمالة الرجال إليهن وتحريك الشهوات منهم؛ ولأجل هذا لم يجز للمرأة أن تؤذن.
وهكذا نجد أن كلمة المفسرين والمحدثين والفقهاء قد اتفقت على أن صوت المرأة في حد ذاته ليس بعورة، فمتى كان وسيلة للتعبير عن الحق من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو التعبير عما تحتاج إليه ملتزمة بآداب الحديث مع الرجال من غير تليين ولا تمييع ولا تجميل فمشروع، ومتى كان كلاماً باطلاً أو فيه دعوة إلى باطل أوصد عن خير فهو محظور، إذ الوسائل تأخذ حكم المقاصد.
الخاتمة
توصل البحث إلى جملة من النتائج أهمها أنّ الشريعة حاكمة على الأعراف ومهيمنة عليها وليس العكس، فما وافق الشرع فهو شرع، وما خالفه فهو باطل ومردود؛ العرف الصحيح مصدر من مصادر التشريع، يراعى في استنباط الأحكام الشرعية وفي تفسير النصوص؛ الأحكام الشرعية المبنية على الأعراف تتغير بتغير الزمان والمكان وبما يتفق مع مقاصد الشريعة جلباً للمصالح ودرأً للمفاسد؛ النظرة الدونية للمرأة لا أساس لها في شرع الله تعالى، وإنما هي من موروثات اليهود والنصارى، وأما الإسلام فقد كرّم المرأة ورفع مكانتها؛ لا أساس للتمييز بين الذكر والأنثى وإنما ذلك بقية من بقايا الجاهلية؛ كرّم الإسلام الإنسان رجلاً وامرأة وأساس التفاضل بين الناس هو التقوى؛ يحرم منع المرأة من ميراثها الذي وهبها الله تعالى، كما يحرم التدخل فيه بزيادة أو نقصان؛ لا يجوز للمرأة المطلقة طلاقاً رجعياً الخروج من بيت زوجها الذي كانت تسكنه قبل الطلاق ولا يجوز للزوج إخراجها منه؛ وعليه يجب قضاء العدة في بيت الزوجية؛ جريمة الشرف من الأعراف المتعارضة مع ثوابت الشريعة، والأحرى بولي الأمر أن يحسن تربية قريبته ابتداءً، من أن يقدم على هذه الجريمة؛ وصوت المرأة ليس بعورة، بل يكون واجباً أحياناً ومحرماً أحياناً أخرى.
وتجدر الإشارة إلى أن ما تم تناوله من نماذج للأعراف التي تحكم قضايا المرأة إنما هي نماذج تمثيلية وليست حصرية، إذ لا تزال كثير من قضايا المرأة متداولة بين العرف والشرع والاجتهاد. إذ اقتصرت الدراسة على ما تناولته من نماذج كونها متعارضة تعارضاً واضحاً مع ثوابت الشريعة كما أن محددات النشر اقتضت الاقتصار على ذلك. وختاماً فلا سعادة للبشرية -رجالاً ونساءً، أفراداً ومجتمعات- ولا نهضة للأمة إلا إذا رجعت إلى شرع ربها والتزمت به عقيدة وشريعة ومنهاج حياة تسير به في جميع شئون حياتها برضىً وتسليم كاملين، قال تعالى: ?فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً.? (النساء : 65)
و اااااسف على الاطالة