مثل معظم إنْ لم يكن كل دعاوى “العضل” رفض
القاضي دعوى “لولوة” ضد والدها من أول جلسة، وهكذا تنضم هذه الفتاة، التي
شارفت على الأربعين من عمرها، إلى عشرات بل مئات المعضولات اللاتي يحلمن
بحياة زوجية هادئة، بيد أن سلطة بل قسوة الأب تقف حائلاً أمام تحقيق هذه
الرغبة المشروعة.
بصوت يسكنه الحزن والأسى، وبنظرات تملؤها الدموع، بدأت “لولوة” حديثها
عن فترة شبابها، وكيف كانت بنتاً جميلة في العشرينيات من عمرها، تعمل في
إحدى المدارس الحكومية داخل مدينة تبوك، ويتهافت عليها الراغبون في الزواج،
ولكنها كانت تتخيل فتى أحلامها بمواصفات خاصة، وبالفعل جاء إليها هذا
الفتى الذي كانت ترى فيه كل مواصفات الزوج المثالي لها، إنه ابن خالتها
الذي انتظرته طيلة ثلاث سنوات حتى جاء اليوم الذي علمت فيه أنه قادم إلى
والدها، طالباً منه تزويجه من ابنته. تقول “لولوة”: وقتها أحسستُ بأني في
قمة سعادتي، وصارت ضربات قلبي تخفق بصوت عالٍ من كثرة السعادة التي شعرت
بها، ورحت أرسم صورة لحياتنا المستقبلية بعد الزواج، ولم أكن أعلم ما يخفيه
لي القدر.
صمتتْ لحظات، وذرفت عيناها الدموع، وقالت: جاء العريس المنتظر إلى
والدي الذي كان في كثير من الأحوال يشكر فيه أمامنا، ويقول إنه شاب مكافح،
ولم تستمر المقابلة سوى بضع دقائق صغيرة، وخرج فتى أحلامي من منزلنا،
وعلمت من أمي أن أبي رفض زواجي منه، ثم علمت من خالتي أنه رفض الزواج؛ لأن
ابن خالتي أجنبي، وليس من أبناء الوطن!
وتواصل “لولوة” حديثها قائلة: وقتها قررت أن أتحدث مع والدي، وعندما
فاتحته في الحديث استنكر عليّ ما قلته رغم أنني تحدثتُ إليه بكل أدب،
ولكنه ظل يسبني، وسألته بكل خجل عن السبب الذي جعله يرفض ابن خالتي؛ فأجاب
بكل عنفوان “كيف لك أن تتزوجي من رجل غريب؟”، فسألته عن سبب زواجه من
والدتي وهي أيضاً أجنبية، ولماذا لم يتزوج بنت البلد، أليس ذلك هو النصيب
الذي لا يُفرّق بين الأجناس؟ بيد أنه رفض كل كلامي، وأخذ ينهرني ويضربني.
سلبية الأم
وتابعت “لولوة”: جلستُ حزينة في البيت بعدما منعني من الخروج سوى إلى
عملي، الذي بدأ يوصلني إليه بنفسه ويأخذني منه، وصار عملي هو المتنفس
الوحيد الذي أذهب إليه، ورحت أتحدث إلى أمي، وأطلب منها أن تقنع والدي،
لكنها رفضت التدخل، وقالت لي إن والدي لا يسمح لأحد بالحديث في هذا
الموضوع نهائياً، ووجدتُ أمي تتعامل مع أحزاني بشكل سلبي، واستغربت بشدة
ردة فعلها تجاه ابنتها الوحيدة؛ حيث كنت أنتظر منها الكثير، ولكن للأسف لم
تنصفني أمي.
ورويداً رويداً تغير الحال معي تماماً، وتغير تعامل والدي والأخوين غير
الشقيقين، وأحسستُ وقتها بأني أعيش في قفص، بل في سجن، ووالدي ونجلاه هم
السجانون، ومرت شهور وسنوات، أحسست خلالها بأني أبتعد عن أسرتي يوماً بعد
يوم، حتى أصبحتُ كمًّا مهملاً في المنزل، لا يهتم به أحد، ولا ينظر إليه،
حتى والدتي كانت تراني وأنا أنطفئ أمامها، ولم تفعل من أجلي شيئاُ، بل طلب
منها والدي مقاطعة أختها ووافقتْ بالفعل، وقطعتْ كل علاقتها بأختها، بل
وبأسرتها كلها؛ لترضي والدي!!
صفقة بيع وشراء
وذات يوم جاء إليّ أخي وهو سعيد، وسمعته يتحدث مع والدي عن عريس، ويذكر له
مواصفاته وماله وعائلته، ووجدتهما يتحدثان عن صفقه بيع وشراء، وليس عن
زواج وأسرة، ثم جاء أبي وقال لي إنه قد جاء لي العريس المناسب الذي وافق
هو وأخواي عليه، وجاء العريس إلى منزلنا أكثر من مرة، ولكني لم أستطع أن
أتقبله زوجاً لي، ووقفتُ أمام والدي وأخويّ للمرة الثانية بمفردي، وقلت لهم
في لحظة غضب أنا لا أرغب في الزواج نهائياً، وصرت أبكي وأصرخ في وجههما
إلى أن ضربني أخي، ووقتها قرر والدي معاقبتي بالفعل.
ومرت ثلاث سنوات، وما زلتُ في بيت والدي، وتزوج ابن خالتي وسافر إلى
إحدى الدول الأوروبية؛ لاستكمال دراسته، واستمر الحال بي هكذا إلى أن أصبح
عمري 30 عاماً، ولم يكن لي أحد أتحدث إليه أو أبث إليه همومي سوى إحدى
صديقاتي في المدرسة التي نصحتني بأن أرفع “دعوى عضل” ضد والدي، بعدما أصبح
يرفض أي عريس يتقدم للزواج منى حتى يعاقبني على ما بدر مني تجاهه، حتى
أصبحت أراه شبحاً أخاف منه عندما يقترب مني، وأشعر بضربات قلبي ترتجف من
الخوف عندما أحسه يفتح باب غرفتي، وشعرتُ بأن كل معاني الرحمة انتزعت من
قلبه، وسيطر عليه الشيطان.
حياة بائسة
أخذت “لولوة” تستجمع قواها، وتلتقط أنفاسها، وقالت: قررتُ وعزمتُ أن أرفع
دعوى عضل ضد والدي، ولكن للأسف رُفِضت الدعوى في أول جلسة، وما زلت أعاني
جبروت أبي ولامبالاة أمي، حتى فقدتُ الأمل بأن يرجع إلى والدي عقله ويفكر
ملياً فيما فعله ولا يزال يفعله بي، وأصبحت الحياة بالنسبة لي بلا طعم ولا
لون ولا رائحة، حتى عملي مُدرِّسة حرمني منه.
وعلمتُ من إحدى صديقاتي أن ابن خالتي قد عاد من غربته ومعه طفلان،
وقتها وجدت عينيَّ تذرفان دمعاً من حزني على نفسي، وفي لحظة ضعف قررت أن
أتخلص من حياتي، ووجدتني ألتقط علبة من الأدوية رأيتها أمامي، وأخذتها
كلها، ولم أشعر بنفسي إلا وأنا جالسة على سرير المستشفى وأمامي والدي
ووالدتي وأخي الكبير.
وبعد فترة من العلاج عدت إلى منزلي، ووجدتني أتقرب إلى الله تعالى حتى
يخرجني مما أنا فيه، ولم تتغير معاملة والدي لي، بل ظل على جبروته وعناده،
ولكني لم أعد ألتفت إلى كل ذلك، وتركت ربي يُسيّر لي أموري كيفما يشاء،
ومرت سنتان وأنا على هذا الوضع، لا جديد يحدث أكثر من نهار وليل يمران
عليّ، ولا شيء أفعله إلا دعائي المستمر على أبي وأمي وأخوَيَّ.
مات وتركني
وبعد فترة وجدتُ أمي تحاول التقرب مني شيئاً فشيئاً، ولكني رفضت ذلك
تماماً، وكلما تحاول الاقتراب مني أجدني لا إرادياً أبتعد عنها، ولا أطيق
الحديث معها، إلى أن مرض والدي مرضاً شديداً، وقتها وجدتني أبكي وأستغفر
ربي، ونسيت كل ما فعله معي، ورحت أصلي وأدعو له بالشفاء، وأدعو ربي بألا
يتقبل دعائي عليه حتى انتقل والدي إلى رحمة الله، وترك كل شيء، وبالرغم من
كل ما فعله والدي إلا أنني أشعر بالذنب، وأتذكر الآية الكريم {ولا تقل
لهما أفٍ ولا تنهرهما}، وأشعر بالخوف من عذاب الله، وأعود وأقول “أليس
حراماً ما فعله هو معي؛ فعمري الآن اقترب من الأربعين!!”.
وختمت “لولوة” حديثها بالتأكيد على خوفها من الله سبحانه وتعالى، بيد أنها تستدرك وتقول: لم أفعل شيئاً، وكنتُ أدعو عليه دون إرادتي.
المحامي أبو راشد: على الفتاة أن تتظلم أمام محكمة التمييز
أوضح المحامي خالد أبو راشد أنه بإمكان الفتاة أن ترفع دعوى ثانية؛ فربما
اختلفت الظروف عن ظروفها فيما سبق؛ لذا عليها أن تتظلم في محكمة التمييز،
وسوف يتحقق القاضي من أسباب العضل وعدم تزويجها. مضيفاً بأنه إذا ثبت
للقاضي أن هذا الأب مخالف للشريعة دون مبرر مشروع فمن حقه أن يعزله عن
الولاية.
الباحث الرميح: الأب العاضل يأثم.. والعفو خير من الانتقام
اعتبر الباحث في الشؤون الإسلامية خالد الرميح أن حالة الفتاة يُرثى لها.
موضحاً أن لها أكثر من شِقّ، أوله أن عضل الوالد ابنته يوقعه في الإثم،
وسوف يتولى الله حسابه بعد مماته، والشِقّ الآخر هو دعاؤها على أبيها؛
فالإسلام يحث على العفو أفضل من الانتقام، وبالرغم من أن دعوة المظلوم
مستجابة عند الله إلا أن العفو واحتساب الأجر عند الله أفضل، وليس من البر
أن تدعو على أبيها الظالم بعد موته؛ لأنه لن يغير من الأمر شيئاً، وقد
يكون الدعاء مرحلة من الانتقام الخارج عن البر.
ونصح الرميح الفتاة بالعفو عن أبيها لوجه الله، والإكثار من الاستغفار،
رغم مشاركته لها في الإحساس بالألم والجرم الذي وقع عليها، مذكرها بقوله
تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره}.