في الأصل هي مقولة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولكنها واقع نعيشه، وشاهد نحياه.. إنها ظاهرة انصراف أهل الحق عن الدعوة للحق الناصع الذي بين أيديهم وعدم إظهاره للناس وبذله لهم، والركون إلى الاعتقاد بأنه طالما هو الحق فإنه منتصر في النهاية لا محالة.. وهي كلمة حق أريد بها باطل؛ فهي في حقيقتها تبرير لخذلاننا للحق وعدم تحركنا من أجل نصرته، والضن بالوقت والجهد أن يبذل في سبيل رفع رايته وانتصار كلمته.
في الوقت الذي نشاهد فيه احتراق أهل الباطل من أجل رفعة باطلهم وإيصاله إلى الناس في أبهى حلة وأزهى صورة لعلمهم بأنه باطل لو ترك دون زينه تلبس على الناس لانصرف الناس عنه فطرة وعقلا.. فالحق أبلج والباطل لجلج.
ونظرة في حالنا وواقع الناس من حولنا ندرك مدى تقصيرنا في نصرة الحق وجهد غيرنا في نصرة الباطل.. ذكر الشيخ عبد الحميد البلالي في كتابه "المصفى من صفات الدعاة 2/174"، عن الدكتور عبد الودود شلبي قوله: (اذكر أنني ترددت كثيرا على مركز من مراكز إعداد المبشرين في مدريد وفي فناء المبنى وضعوا لوحة كبيرة كتبوا عليها: (أيها المبشر الشاب نحن لا نعدك بوظيفة أو عمل أو سكن أو فراش وثير.. وإننا نذكرك بأنك لن تجد في عملك التبشيري إلا التعب والمرض.. كل ما نقدمه لك هو العلم والخبز والفراش الخشن في كوخ صغير.. أجرك كله ستجده عند الله.. إذا أدركك الموت وأنت في طريق المسيح كنت من السعداء).
قال الشيخ البلالي معلقا على ما مضى: هذا يقال لمن هم على الباطل وليس لعملهم مهما كثر إلا النار.. ومع هذا كله فإن هذا الكلام قد حرك المئات من المبشرين من أنحاء العالم من حملة شهادات الطب والصيدلة.. للذهاب إلى الصحاري القاحلة والتي لا توجد فيها إلا الخيام والمستنقعات المليئة بالنتن والمكروبات والمكوث هناك السنين الطوال دون راتب ودون منصب، ولو أراد الواحد منهم العمل بمؤهله لربح مئات الآلاف من الدولارات، ولكنه ضحى بكل هذا من أجل الباطل الذي يعتقد صحته. أيجوز بعد هذا أن يتذرع بعض من لم تسر الدعوة في عروقه مسرى الدم وهو متكئ على أريكته بالحديث الضعيف [روحوا القلوب ساعة فساعة] "ضعفه الألباني" متخذا من هذا الحديث عذرا له للتخلف عن الركب؟!).
أذكر أنني قرأت إبان مشكلة المسجد البابري في الهند أن عاملا هنديا ترك مزرعته التي كان يعمل بها وجعل يطيف بأرجاء المملكة من أجل أن يجمع التبرعات من الهنود وأعداء الله من أجل هدم المسجد وإعادة بناء المعبد البابري عليه. ونسي في غمرة قضيته سبب مجيئه إلى المملكة للعمل ليعيل أسرته.
ذكر الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم في كتابه الرائع "علو الهمة" قال: "حكى لي بعض الشباب المسلمين في (ألمانيا) أنه منذ الصباح الباكر ينتشر دعاة فرقة (شهود يهوه) في الشوارع وينطلقون إلى البيوت، ويطرقون الأبواب للدعوة إلى عقيدتهم.
وحدثني أحدهم أن فتاة ألمانية منهم طرقت بابه في السادسة صباحاً، فلما علم أن غرضها دعوته إلى عقيدتها، بين لها أنه مسلم، وأنه ليس في حاجة إلى أن يستمع منها.. فظلت تجادله وتلح عليه أن يمنحها ولو دقائق (من أجل المسيح)! فلما رأى إصرارها أوصد الباب في وجهها، ولكنها أصرت على تبليغ عقيدتها، ووقفت تخطب أمام الباب المغلق قرابة نصف ساعة تشرح له عقيدتها، وتغريه باعتناق دينها!!
فما بالنا معشر المسلمين يجلس الواحد منا شبعان متكئاً على أريكته، إذا طلب منه نصرة الحق، أو كلف بأبسط المهام، أو عوتب لاستغراقه في اللهو والترفيه، انطلق كالصاروخ مردداً قوله صلى الله عليه وسلم: (يا حنظلة ساعة وساعة) كأنه لا يحفظ من القرآن والسنة غيره.(علو الهمة 296)
وفي كتاب المنطلق للأستاذ محمد أحمد الراشد (ص61ـ63) قال: "يقف الداعية يؤذن في الناس، ولكن أكثر الناس نيام، ويرى جلد أصحاب الباطل وأهل الريبة وتفانيهم لإمرار خطتهم، فإذا التفت رأى الأمين المسلم سادرا غافلا، إلا الذين رحمهم ربهم ، وقليل ماهم ، ويعود ليفرغ حزنه في خطاب مع نفسه:
تبلد في الناس حس الكفاح.. .. ومالـوا لكسبٍ وعيشٍ رتيب
يكــاد يزعــزع من همــتي .. .. سدور الأمين وعزم المريب
إن دعوة لا يعطيها أصحابها إلا فضول أوقاتهم دعوة ميتة لا ثمرة فيها كما قال الأستاذ الراشد حفظه الله : ( والله لا نجاح في الدعوة إن أعطيناها فضول أوقاتنا ولم ننس أنفسنا وطعامنا)
وذكر عن الإمام أحمد أنه كان "إذا بلغه عن شخص صلاح أو زهد سال عنه وأحب أن يعرف عن أحواله.. ولم يكن بالمنعزل الهارب من الناس ولا يكون داعية اليوم إلا من يفتش عن الناس ويبحث عنهم ويرحل للقائهم ويزورهم في مجالسهم.. ومن انتظر مجيء الناس إليه في بيته فان الأيام تبقيه وحيدا ويتعلم فن التثاؤب... الإسلام اليوم لا يحتاج مزيدا من البحوث في جزيئات الفقه بقدر ما يحتاج إلى دعاة يتكاتفون" (المنطلق 120)
ويؤكد ذلك ابن الجوزي رحمه الله فيقول: "ألست تبغي القرب منه؟ فاشتغل بدلالة عباده عليه، فهي حالات الأنبياء عليهم السلام، أما علمتَ أنهم آثروا تعليم الخلق على خلوات التعبد، لعلمهم أن ذلك آثر عند حبيبهم؟
إن انتصار الداعية في أن تعاف نفسه ما لا يؤثر في تـقدم دعوته، وإن غفلة الداعية محنة لأنها صرفته عن نصر ممكن يحققه له الجد والعمل الدائب، وعن أجر وثواب أخروي ليس له من مقدمة إلا هذا الجد، وسيظل اسمنا مكتوباً في سجل الغافلين الفارغين ما دمنا لا نعطي للدعوة إلا فضول أوقاتـنا، وما دمنا لا نشغفها حباً ولا نتخذها حرفة .
فيا محنة الحسناء تهدى إلى امرئ .. .. ضرير وعنين من الوجد خاليا